خاطرة عن مهنة أفلت
في يوم من أيام الربيع البديع في الموصل الحدباء سنة 1943 ….. وكانت الشمس كالعادة ساطعة والجو معتدل الحرارة, وكان الوقت قد قارب العصر وكنت آنذاك أُداوم في مدرسة الوطن الابتدائية للبنين الكائنة في شارع خيرالدين العمري في صف الثالث, في ذلك اليوم وكان يوم جمعة وكل من في البيت قد وجد له مكانا للقيلولة ومعظمنا قد وجد له ذلك في غرفة ننزل لها بدرجات ثلاث نسيمها (رهرة), وكانت أمي قد بدأت تروح وتجي في فناء (حوش) الدار الذي لم يكن يتجاوز الاربعين مترا مربعا ….. فشدت حبلا متينا بين شباك الغرفة من جهة والحائط الذي يفصلنا عن بيت اعمامي الثلاثة من جهة أخرى بمسمار غليظ معوج يسمى (عقبي اي على شكل عقرب) …. وقد وضعت منقلة النار الموقدة بالفحم وفوقها قدر (دست) مملوء بدهن الشحم ولست ادري ما وضع فيه ايضا إلا إن الشحم كان صلبا تماما وقد بدأ بالذوبان وصار حارا سائلا وبجانب المنقل (جمجه) وهي طاسة صغيرة ولها يد طويلة موضوعة في سطل …. وهناك بعض الاشياء لم نتبينها على منضدة صغيرة قرب السطل …. وكنا (أنا واخوتي وأخواتي الصغار) آنذاك قد تجمعنا في باحة الدار حول المنقل وبين الحين والآخر يسأل احدنا ماذا تفعلين يا أمي؟ وتهز أمي رأسها وهي تبتسم ولا تنبس ببنت شفة ….. وعندما ضاق صدرنا دون أن نسمع منها جواب شافي لتطلعاتنا بمعرفة ماذا يدور قالت لنا الآن يا أولاد سوف نذهب لأبيكم كي يأتي ويرى هل كل شيء على مايرام لصنع مايريد؟
وعلمنا بعدئذ بأن أحد أصدقاء والدنا كان قد نذر لجامع النبيّ يونس شمعة بطول متر يضعها قرب قبر النبيّ الموجود في جامع النبيّ يونس الشهير والمبني على قمة تل في نينوى في الجانب الايسر من نهر دجلة وكان النذر مشروطا بمجيء ولد ذكر حيث كان لديه أربعة من البنات وقد جاءه الولد مؤخرا … وقد طلب من أبي أن يقوم بصنع هذه الشمعة المنذورة.
شمر والدي عن ساعديه وأشار لنا بالابتعاد قدر الامكان عن مكان عمله لئلا يصيبنا رذاذ من الشحم الحار المذاب وكان قد أخذ من على المنضدة لفافة ونشرها فإذا بها حبل من القطن السميك ربط اعلاه بالحبل …. ونهايته الثانية قاربت الارض فوضع وعاءا من النحاس المطلي بالقلاي يسمى (طشت) تحته و كان الشحم قد أصبح سائلا فاخذ الجمجه وغرف منه واخذ يسكبه على الحبل من الاعلى ويسيح عليه ويلتصق به وقد يبقى من الدهن شيئا فيتجمع في الطشت …. ويظل الوالد يعيد العملية برتابة وتؤده وينظر الى الشمعة التي بدأت تكتسي شيئا فشيئا وتغلظ …. وعندما وصلت الشمعة الى الغلظ المناسب حوالي 8 سم توقف …. وانتظر مدة قصيرة الى ان تجمدت تماما أخذ شفرة صغيرة من الحديد بشكل السكين وقشط الزيادات التي بسطح الشمعة واصبح سطح الشمعة مستدير من فوق الى اسفل … ونظرنا اليها وقد اصفر لونها (لعل الوالد قد وضع شيئا من المادة التي لونت الشحم قبل بدء العملية) ثم رسم بفرشاة وبألوان ثلاثة الاخضر والاحمر والذهبي على سطح الشمعة خطوطا متداخلة بشكل هندسي أنيق ووضع نقاطا حمراء هنا وهناك …. وبدا لنا منظر الشمعة الكبيرة مذهلا رائعا … وبقيت معلقة بالحبل وقتا من الزمن الى ان جفت الألوان … وماهي إلا ساعة حتى جاء صديق والدي صاحب النذر وأخذ الشمعة من البيت وذهب اخوتي واخواتي الصغار الى الوالدة وهم يتباكون يريدون ان تبقى الشمعة معلقة عندنا … ولاحظت آنذاك شبح ابتسامة وانفراج في أسارير وجه والدي – ونادر ما كنا نراه مبتسما … كانت تلك المرة الاولى والاخيرة التي رأينا والدي يصنع شمعة ولم يكن أحد من أحفاد جد والدي وهب الشماع بعد وفاة ابنه عبدالله من يصنع الشموع … بل لم يكن أحدا من الاحفاد من استمر في المهنة التي هي إذابة شحوم لما يجمع من ذبح الخرفان والبقر والجاموس والابل غير والدي … وبعده انتهى عهد المنهة فلم يعد احد يستعمل ذلك الدهن لا للطبخ والاكل ولا لعمل الشموع.
فالدهون المصنعة من النباتات اصبحت هي الرائجة حفاظا على الصحة … وشمعات النذر افلت ولم يعد لنورها حاجة … كل شيء يتغير وهذه هي سنة الحياة.
Leave a Reply