حفظ الصحة بين الحضارة العربية الاسلامية وبين الحاضر

بسم الله الرحمن الرحيم

حفظ الصحة بين الحضارة العربية الاسلامية وبين الحاضر

 

علمّنا التأريخ ان البقاء للأصلح… وأهم صفات الاصلح هي الصحة…. صحة الجسم وصحة الفكر…

وقول الاصلح يشمل ايضا مملكتي النبات والحيوان… فالنبتة التي لها جذور عميقة وساق متين وازهارها كثيرة وبذور قوية عديدة…. هي ابقى من غيرها الضعيفة… ولاحاجة لايراد الامثلة على افراد ممكلة الحيوان وكيفية حفاظها على نفسها ونوعها…

لكن الانسان شيء آخر…فقد تطور بسرعة لتميزه العقلي وانشأ حضارات, ولم يعد حفظ النوع هو المهم فقط بل تعداه الى الحفاظ على الصحة بل تحسينها…

لاشك ان الحضارات التي سبقت الحضارة العربية الاسلامية كانت سباقة في وضع اللبنات الاولية في كيفية المحافظة على الصحة, إلا ان الاسس التي اعتمدها أساطير العرب والمسلمين إبان اوج نهضتهم هي ذاتها الاسس التي نعتمد عليها, وبالطبع فنحن نعرف ان العلم لايمكن ان يقف عند حد, فالتطور لازم ووسائل تطويره تتغير بتقدم الزمن لو نظرنا الى الكتب والمؤلفات الطبية لاطباءنا الاقدمين…. لوجدنا انهم قد افردوا كتاباً او مقالة او باباً في كتاب يبحث موضوع حفظ الصحة… وكيفية حفظ اي جهاز او قسم من الجسم من الامراض قبل الخوض في امراضه….. ومن اشهر ما كتبوا من اطباءنا عن الموضوع …. ابن ربن الطبري (ولد 154 هـ) في كتابه “كتاب حفظ الصحة” ورسالة في تدبير الاصحاء…. للكندي (توفي 257 هـ) ورسالة في حفظ الصحة لقسطا بن لوقا البعلبكي (ت 320 هـ) وكتاب تدبير الصحة لثابت بن قره الحراني (ت 288 هـ) وكتاب الحيلة لحفظ الصحة لايوب الرهاوي وكتاب تدبير الاصحاء ليوحنا بن ماسوية ورسالة في تدبير الصحة بالمأكل والمشرب لحنين بن اسحاق العبادي وارجوزة في تدبير الصحة في الفصول لابن سينا وكتاب تقديم الصحة لابن بطلان (ت 450 هـ) وغيرهم كثيرون….

وقد وجدت فيما كتبه الرازي عن الموضوع يغطي معظم ما كتب فيه ففي كتابه المنصوري في الطب يقول ان الطب ينقسم الى قسمين احدهما تدبير الجسم الصحيح ليثبت له صحته والاخر رد الجسم السقيم الى حالة الصحة.

وقد افرد المقالة الرابعة من كتابه لحفظ الصحة… التي تشمل اركانها وهي:

1- حسن تقدير الحركة.

2- السكون.

3- المطعم.

4- المشرب.

5- اخراج الفضول.

6- تعديل المساكن.

7- تلاحق الحوادث الرديئة قبل ان تعظم.

8- موافقة الهمم النفسية.

9- التحفظ بالعادات.

 

نص الحركة يقول:

ينبغي استعمال الحركة قبل الطعام وكل حسب عاداته وقوته. ولمن يتحرك الحركات القوية الشديدة ان يتدرج وينبغي تجنب الحركة العنيفة قبل الطعام.

 

وفي حسن تقدير النوم ودقته ومنافعه ومضاره يقول:

ليكن النوم بعد الطعام بمدة مناسبة لئلا يصاب بعسر الطعام ولتكن المخدة مرتفعة. فإن النوم يريح النفس ويوقظ ويشحذ ويجدد الرأي والفكر ويسكن الاعياء ويجدد الهضم ويخصب البدن والافراط فيه يرهل البدن ويرخيه..والسهر المفرط يهيج الحرارة ويفسد السمنة ويجفف البدن ويكثر فيه الامراض.

 

وفي تدبير المطعم يقول:

أن يأكل الانسان طعامه بتؤده الى ان تسقط شهوته, ولا يأكل مرة ثانية إلا بعد تهيج الشهوة وان لا يثقل المعدة بالطعام.. وان يتغذى من الاغذية المألوفة ويمتنع عن الاغذية التي تسبب عسر الهضم. وان لا يأكل اغذية مختلفة في وقت واحد وان يقوم الغذاء الاغلظ قبل الارق الألطف.

وإما الفواكه الرطبة فتؤكل قبل الطعام إلا ما كان منها ابطاء ووقوف طويل في المعدة وفيه قبض وحموضة كالسفرجل وحموضة والرمان والتفاح.

 

وفي تدبير الشرب يقول:

لا يشرب الماء على المائدة ولا بعد الاكل الى ان يخف اعلى البطن وإذا كان ولابد فبقدر ما يسكن به بعض العطش.

ولا يشرب الماء البارد او ماء الثلج الكثير في دفعة واحدة من به عطش شديد.. وليتجرع قليلاً ساعة بعد ساعة الى ان يبطل ذلك العارض. ولا يشرب الماء ليلاً اذا كان العطش كاذباً وأية ذلك ان يكون سكراناً

وإن لم يتهيأ ذلك فليشرب قليلا او يصابر وإلا فليتقيأ ولا يأكل يومه شيئا مالحاً. ولا يشرب الماء على الجوع ولا على طعام حريق وليتجنب مواترة السكر فأنه يورث امراضاً رديئة.

 

وفي تنقية البدن من الفضول يقول:

ان تنقية البدن يجب ان يكون باعتدال وإذا قل مقدار البول فيدر باعتدال ايضاً ويكون ذلك بالشراب الرقيق والسكنجبين وبزر البطيخ والقثاء وبزر الخيار والكرفس والرازيانج والبطيخ ونحوها واذا قل العرق فنزيده بالحركة والرياضة والحمام.

واذا ادمّنا غذاء ومن شانه توليد الصفراء فلنستعمل باعتدال الاهاليج الاصفر والاجاص والتمر هندي وماء الجبن والرمان المدقوق.

 

وفي اختيار المجالس والمراقد والمسكن يقول:

ينبغي ان لا يكون لهذه المواضع من الحر ما يعرّق ولا من البرد ما يقشعر منه البدن ولا تكون تربته رطبة يابسة ولا شعته غبرة او فيها روائح منكره.

ويستمر في كيفية حفظ الصحة في التعرف على الانذار بالحوادث الرديئة وتلاحقها قبل ان تقوى وتعظم مثل الاعراض الاولية للامراض وكذلك فيما يمنع ضرر الاغذية غير الموافقة للصحة كطعام الدسم ويتكلم عن منافع اخراج الدم ومضاره ومنافع الاسهال ومضاره وفي استعمال القيء ومنافع الجماع ومضاره وكيفية حفظ الاسنان واستعمال السواك وفي حفظ العين والسمع والاحتراس من الامراض المعدية وفي تدبير المرأة الحامل ويختتم المقالة في صفات الطبيب الفاضل فأنه يرى انه الطبيب الذي افنى عمره في مطالعة كتب الاطباء والطبيعيين واذا خلا يمض فيما قرأ الفكر ويمحصها ويناقش مع اقرائه ما قرأ وتوصل اليه وان يكون له قوة البحث والنظر, ثم يشاهد المرضى ويقلبهم وان يكون في المواضع المشهورة بكثرة الاطباء والمرضى ويتابع القراءة والمناقشة في كل حالة وان يكون متواضعاً في عمله لان صناعة الطب اطول بكثير من مقدار عمر الانسان. هذه هي الاسس التي وضعها الاولون في حفظ الصحة ولايزال اكثرها نافعا….

وإنما زيد عليها – في ايامنا هذه – امران… اولهما اساليب بلوغها…. وثانيهما تحسين الصحة في الانسان.

اما الاساليب فقد تطورت ببطء الى ان حدثت الثورة الصناعية في اوربا… ولكن تطورها السريع لم يحدث الا بحلول القرن العشرين وذلك للتقدم الهائل في التكنولوجيا سواء الصناعية والزراعية والهندسة والطب لما افرزته – التقنية – من آثار جانبية على حفظ الصحة … وليس تجنياً على الحقيقة لو قلنا ان القرن الحالي يشهد عدم مواكبته في حفظ الصحة بالنسبة للاختراعات الجديدة كثيرة العدد التي وضعت موضع التنفيذ… إلا ان اساليب منع حدوث مردوداتها السلبية على الانسان لم تجد نفعاً لحد الان لكثير منها.

 ولنأخذ مثالاً على ذلك… توليد الطاقة من المحطات الذرية والمتعارف عليه ان انظمة السلامة تسمح بمراقبة الانتاج بمعدل 99% وهذا 1% الباقي قد فعل فعله في مفاعل جيرنوبل!!

ولكن أسوآ الاخطار على حفظ الصحة لا تأتي من هذه الحوادث بل على مستوى التخزين ونقل النفايات الاشعاعية النشاط اضافة الى ان المفاعل الذي يُستهلك بعد 30 عاما تقريباً يصبح بدوره نفاية ويجب التخلص منها … وكيف؟؟

نعم بالامكان اغراقها في البحر وبذلك تحول المحيطات شيئاً فشيئأ الى بحار ميتة…

ومعلوم ان الاشعاع ولو كان قليلا يؤدي الى اصابة الانسان المتعرض له الى عدد من انحراف الصحة مثل فقر الدم, اصابات الجهاز اللمفاوي… والغدة الدرقية والرئة وابيضاض الدم والتأثيرات الوراثية المؤدية الى ولادة اطفال مسوخ.

ناهيك عن الحرب النووية وما يمكن ان تسفر عنه.

مثال آخر: العجلات التي تعمل بمنتجات نفطية:

ان السيارة تولد:

1- غازات من اوكسيد الفحم تقتل وتولد امراض الدم.

2- غازات من الهيدروكاربون غير المحترق تولد السرطان.

3- غازات من اوكسيد النتروجين تسبب اضطرابات نفسية.

4- غازات من الرصاص ومشتقاته وهي سموم بطيئة.

ولا يقف ضرر السيارة على هذا المجال ففي فرنسا كان مجموع قتلى الطرق 17000 شخص عام 1972 ومجموع الجرحى 380000 ان التطور الحضاري افرز ايضا ظهور امراض لم تكن موجودة او معروفة من قبل… وتنتشر بسرعة كبيرة توازي سرعة انتقال الاشخاص من بلد الى آخر… اخص بالذكر مرض فقدان المناعة المكتسبة او الايدز وماله من تأثيرات على صحة الافراد والمجتمع  وافراز التطور الحضاري.

 تحسين نوع الانتاج النباتي والحيواني على مستوى اعطاء النبات سماد واطعام الحيوانات مركبات كيمياوية…ادت في كثير من الاحيان الى تأثيرات في الصحة العامة ولكن التطور الحضاري – من الناحية الاخرى – قد حقق انتصاراً باهراً في مجال حفظ الصحة ووضع اللبنة الاولى موضع التنفيد من خلال علم الهندسة الوراثية – على الصعيدين النباتي والحيواني وتطبيقاتها على الانسان. وابزر ذلك الاستنساخ وتأمين الحصول على نوعية من الانسان له صفات يقوى ليس على مقاومة الامراض بل على تملك نسله صفات قد تكون خارقة.

هذه الطفرة في التطور لحفظ الصحة… كيف سيكون تطبيقها؟؟ أليس مرهون بمن يمتلكها…!؟ فالعالم الرأسمالي المتمكن… هل سيسمح للعالم الثالث ان يستعملها… أشك في ذلك مادام لدى القوى الاستعمارية القدرة على وضع الشعوب الصغيرة تحت حصار ظالم مالم تنصاع لارادتهم ومصلحتهم.

وختاماً…. اعتقد ان حفظ الصحة إبان اوج الحضارة العربية الاسلامية كانت اقدر على حفظ صحة الفرد والمجتمع من حضارة العالم المتمدن الحالي…. لان الايمان بالمثل العليا كان له الاولوية في تفكير وسلوك وحياة العرب والمسلمين.

 

الدكتور سالم مجيد الشماع

 

المصارد:

– كتاب المنصوري في الطب للرازي – تحقيق حازم البكري 1987 .

– كتاب مختصر تأريخ الطب العربي – كمال السامرائي 1985 .

– كتاب مشروع الامل – روجيه غارودي 1977 .

 

«العودة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

 


 

هل لديك سؤال أو تعليق؟



يتم أبدا نشر البريد الإلكتروني الخاص بك